الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
لا غنى لولي الأمر عن المشاورة؛ فإن الله ـ تعالى ـ أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: وقد أثني الله على المؤمنين بذلك في قوله: وإن كان أمرًا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به، كما قال تعالى: وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى كل منهما أن يتحري بما يقوله ويفعله طاعة الله ورسوله، واتباع كتاب الله. ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب، وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب، أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك، فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه. هذا أقوي الأقوال. وقد قيل: ليس له التقليد بكل حال، وقيل: له التقليد بكل حال. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره. وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة من الشروط يجب فعله بحسب الإمكان، بل وسائر العبادات مـن الصلاة والجهاد وغير ذلك، كل ذلك واجب مع القدرة. فأما مع العجز فـإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولهذا أمر الله المصلى أن يتطهر بالماء، فإن عدمـه، أو خـاف الضرر باستعماله لشـدة البرد أو جراحة أو غـير ذلك، تيمم صعيـدا طيبا، فمسح بوجهه ويديه منه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب). فقد أوجب الله فعل الصـلاة في الوقت على أي حال أمكن، كما قال تعالى: فأوجب الله الصلاة على الآمن والخائف، والصحيح والمريض، والغني والفقير، والمقيم والمسافر، وخففها على المسافر والخائف والمريض، كما جاء به الكتاب والسنة. وكذلك أوجب فيها واجبات؛ من الطهارة، والستارة، واستقبال القبلة، وأسقط ما يعجز عنه العبد من ذلك. فلو انكسرت سفينة قوم، أو سلبهم المحاربون ثيابهم، صلوا عراة بحسب أحوالهم، وقام إمامهم وسطهم؛ لئلا يري الباقون عورته. ولو اشتبهت عليهم القبلة، اجتهدوا في الاستدلال عليها. فلو عميت الدلائل صلوا كيفما أمكنهم، كما قد روي أنهم فعلوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهكذا الجهاد والولايات وسائر أمور الدين، وذلك كله في قوله تعالى: وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). كما أن الله ـ تعالى ـ لما حرم المطاعم الخبيثة قال:
يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم). رواه أبو داود، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة. وروي الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم)، فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع؛ ولأن الله ـ تعالى ـ أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم. وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة؛ولهذا روي: (أن السلطان ظل الله في الأرض) / ويقال: (ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان). والتجربة تبين ذلك. ولهذا كان السلف ـ كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما ـ يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضي لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم). رواه مسلم. وقال: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم). رواه أهل السنن. وفي الصحيح عنه أنه قال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة). قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). فالواجب اتخاذ الإمـارة دينًا وقربـة يتقرب بهـا إلى الله؛ فإن التقـرب إليه فيهـا بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها. وقد روي كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. فأخبر أن حرص المرء على المال والرياسة /يفسد دينه، مثل أو أكثر من فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم. وقد أخبر الله ـ تعالى ـ عن الذي يؤتي كتابه بشماله أنه يقول: وغاية مريد الرياسة أن يكون كفرعون، وجامع المال أن يكون كقارون، وقد بين الله ـ تعالى ـ في كتابه حال فرعون وقارون، فقال تعالى: القسم الأول: يريدون العلو على الناس، والفساد في الأرض وهو معصية الله، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون، كفرعون وحزبه. وهؤلاء هم شرار الخلق، قال الله تعالى: والقسم الثاني: الذين يريدون الفساد بلا علو، كالسراق والمجرمين من سفلة الناس. والقسم الثالث: يريدون العلو بلا فساد، كالذين عندهم دين يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس. وأما القسم الرابع: فهم أهل الجنة، الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، مع أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم، كما قال الله تعالى: فكم ممن يريد العلو، ولا يزيده ذلك إلا سفولا! وكم ممن جعل من الأعلين وهو لا يريد العلو ولا الفساد! وذلك لأن إرادة العلو / على الخلق ظلم؛ لأن الناس من جنس واحد، فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم، ومع أنه ظلم فالناس يبغضون من يكون كذلك ويعادونه؛ لأن العادل منهم لا يحب أن يكون مقهورًا لنظيره، وغير العادل منهم يؤثر أن يكون هو القاهر، ثم إنه مع هذا لابد له ـ في العقل والدين ـ من أن يكون بعضهم فوق بعض، كما قدمناه، كما أن الجسد لا يصلح إلا برأس، قال تعالى: فإن كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله، كان ذلك صلاح الدين والدنيا. وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس، وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف، صاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم؛ رأي كثير من الناس أن الإمارة / تنافي الإيمان وكمال الدين. ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك. ومنهم من رأي حاجته إلى ذلك، فأخذه معرضا عن الدين؛ لاعتقاده أنه مناف لذلك، وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل، لا في محل العلو والعز. وكذلك لما غلب على كثير من أهل الدينين العجز عن تكميل الدين، والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء: استضعف طريقتهم واستذلها من رأي أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها. وهاتان السبيلان الفاسدتان ـ سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك إقامة الدين ـ هما سبيل المغضوب عليهم والضالين. الأولي للضالين النصاري، والثانية للمغضوب عليهم اليهود. وإنما الصراط المستقيم ـ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ـ هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسبيل خلفائه وأصحابه، ومن سلك سبيلهم. وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، ذلك / الفوز العظيم. فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه، فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه، ومصالح المسلمين وأقام فيها، وما يمكنه من الواجبات واجتناب ما يمكنه من المحرمات، لم يؤاخذ بما يعجز عنه؛ فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار. ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد، ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة، ومحبة الخير، وفعل ما يقدر عليه من الخير، لم يكلف ما يعجز عنه؛ فإن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر، كما ذكره الله تعالى. فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله ـ تعالى ـ ولطلب ما عنده، مستعيناً بالله في ذلك؛ ثم الدنيا تخدم الدين، كما قال معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه: يا بن آدم، أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا، فانتظمها انتظاما، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة، وأنت من الدنيا على خطر. ودليل ذلك ما رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أصبح والآخرة أكبر همه جمع الله له شمله،وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرق الله عليه ضيعته،/ وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له). وأصل ذلك في قوله تعالى: فنسأل الله العظيم أن يوفقنا وسائر إخواننا، وجميع المسلمين لما يحبه لنا ويرضاه من القول والعمل؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا دائمًا إلى يوم الدين. / بسم الله الرحمن الرحيم من الداعي أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين، ومن أيد الله في دولته الدين، وأعز بها عباده المؤمنين، وقمع فيها الكفار والمنافقين، والخوارج المارقين، نصره الله ونصر به الإسلام، وأصلح له وبه أمور الخاص والعام، وأحيا به معالم الإيمان، وأقام به شرائع القرآن، وأذل به أهل الكفر والفسوق والعصيان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلى على خاتم النبيين، وإمام المتقين محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. أما بعد: فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. وأنعم الله على السلطان، وعلى المؤمنين في دولته نعما لم تعهد في القرون الخالية. وجدد الإسلام في أيامه تجديدًا،/ بانت فضيلته على الدول الماضية.وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق، أفضل الأولين والآخرين، الذين أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوس المئين. والله ـ تعالى ـ يوزعه والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة في الدنيا والدين، ويتمها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين. وذلك أن السلطان ـ أتم الله نعمته ـ حصل للأمة بيمن ولايته، وحسن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته، ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين، وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين، من جهاد أعداء الله المارقين من الدين، وهم صنفان: أهل الفجور والطغيان، وذوو الغي والعدوان، الخارجون عن شرائع الإيمان، طلبا للعلو في الأرض والفساد، وتركا لسبيل الهدي والرشاد. وهؤلاء هم التتار، ونحوهم من كل خارج عن شرائع الإسلام وإن تمسك بالشهادتين، أو ببعض سياسة الإسلام. والصنف الثاني: أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون، الخارجون عن السنة والجماعة،المفارقون للشرعة والطاعة،مثل هؤلاء /الذين غزوا بأمر السلطان من أهل الجبل، والجرد، والكسروان. فإن ما مَنَّ الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام، هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام. وذلك أن هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين؛ فإن اعتقادهم: أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر، وبيعة الرضوان وجمهور المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الإسلام وعلماءهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك المسلمين وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم، كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون، أكفر من اليهود والنصاري؛ لأنهم مرتدون عندهم، والمرتد شر من الكافر الأصلى؛ ولهذا السبب يقدمون الفرنج والتتار على أهل القرآن والإيمان. ولهذا لما قدم التتار إلى البلاد، وفعلوا بعسكر المسلمين ما لا يحصي من الفساد، وأرسلوا إلى أهل قبرص فملكوا بعض الساحل، وحملوا راية الصليب، وحملوا إلى قبرص من خيل المسلمين وسلاحهم وأسراهم ما لا يحصي عدده إلا الله، وأقام سوقهم بالساحل عشرين يوما يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرص، وفرحوا بمجيء التتار، هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون، مثل أهل جزين وما حوإليها. وجبل عامل ونواحيه. /ولما خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية، ظهر فيهم من الخزي والنكال ما عرفه الناس منهم. ولما نصر الله الإسلام النصرة العظمي عند قدوم السلطان، كان بينهم شبيه بالعزاء. كل هذا، وأعظم منه عند هذه الطائفة التي كانت من أعظم الأسباب في خروج جنكسخان إلى بلاد الإسلام، وفي استيلاء هولاكو على بغداد، وفي قدومه إلى حلب، وفي نهب الصالحية، وفي غير ذلك من أنواع العداوة للإسلام وأهله. لأن عندهم أن كل من لم يوافقهم على ضلالهم فهو كافر مرتد. ومن استحل الفقاع فهو كافر. ومن مسح على الخفين فهو عندهم كافر. ومن حرم المتعة فهو كافر. ومن أحب أبا بكر، أو عمر، أو عثمان، أو ترضي عنهم، أو عن جماهير الصحابة، فهو عندهم كافر. ومن لم يؤمن بمنتظرهم فهو عندهم كافر. وهذا المنتظر صبي عمره سنتان أو ثلاث، أو خمس. يزعمون أنه دخل السرداب بسامرا من أكثر من أربعمائة سنة. وهو يعلم كل شيء. وهو حجة الله على أهل الأرض. فمن لم يؤمن به فهو عندهم كافر. وهو شيء لا حقيقة له، ولم يكن هذا في الوجود قط. وعندهم من قال: إن الله يري في الآخرة فهو كافر. ومن قال: / إن الله تكلم بالقرآن حقيقة فهو كافر. ومن قال: إن الله فوق السموات فهو كافر. ومن آمن بالقضاء والقدر، وقال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وإن الله يقلب قلوب عباده، وإن الله خالق كل شيء، فهو عندهم كافر. وعندهم أن من آمن بحقيقة أسماء الله وصفاته التي أخبر بها في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو عندهم كافر. هذا هو المذهب الذي تلقنه لهم أئمتهم، مثل بني العود؛ فإنهم شيوخ أهل هذا الجبل، وهم الذين كانوا يأمرونهم بقتال المسلمين، ويفتونهم بهذه الأمور. وقد حصل بأيدي المسلمين طائفة من كتبهم تصنيف ابن العود وغيره. وفيها هذا وأعظم منه. وهم اعترفوا لنا بأنهم الذين علموهم وأمروهم، لكنهم مع هذا يظهرون التقية والنفاق. ويتقربون ببذل الأموال إلى من يقبلها منهم. وهكذا كان عادة هؤلاء الجبلية، فإنما أقاموا بجبلهم لما كانوا يظهرونه من النفاق، ويبذلونه من البرطيل لمن يقصدهم. والمكان الذي لهم في غاية الصعوبة. ذكر أهل الخبرة أنهم لم يروا مثله؛ ولهذا كثر فسادهم، فقتلوا من النفوس، وأخذوا من الأموال، ما لا يعلمه إلا الله. /ولقد كان جيرانهم من أهل البقاع وغيرها معهم في أمر لا يضبط شره، كل ليلة تنزل عليهم منهم طائفة، ويفعلون من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. كانوا في قطع الطرقات وإخافة سكان البيوتات على أقبح سيرة عرفت من أهل الجنايات، يرد إليهم النصاري من أهل قبرص فيضيفونهم ويعطونهم سلاح المسلمين، ويقعون بالرجل الصالح من المسلمين، فإما أن يقتلوه أو يسلبوه. وقليل منهم من يفلت منهم بالحيلة. فأعان الله ويسر بحسن نية السلطان وهمته في إقامة شرائع الإسلام، وعنايته بجهاد المارقين أن غزوا غزوة شرعية، كما أمر الله ورسوله، بعد أن كشفت أحوالهم، وأزيحت عللهم، وأزيلت شبههم، وبذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به، وبين لهم أن غزوهم اقتداء بسيرة أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في قتال الحرورية المارقين، الذين تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ونعت حالهم من وجوه متعددة. أخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه، من حديث على بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن حنيف، وأبي ذر الغفاري، ورافع بن عمرو، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قـال فيهم: ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مـع صيامهم، /وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل. يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يقـرؤون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم، شر قتلي تحت أديم السماء، خير قتلي من قتلوه). وأول ما خرج هؤلاء زمن أمير المؤمنين على ـ رضي الله عنه ـ وكان لهم من الصلاة، والصيام، والقراءة، والعبادة، والزهادة ما لم يكن لعموم الصحابة، لكن كانوا خارجين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة المسلمين، وقتلوا من المسلمين رجلا اسمه عبد الله بن خباب، وأغاروا على دواب المسلمين. وهؤلاء القوم كانوا أقل صلاة وصياما، ولم نجد في جبلهم مصحفا ولا فيهم قارئا للقرآن، وإنما عندهم عقائدهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، وأباحوا بها دماء المسلمين. وهم مع هذا فقد سفكوا من الدماء وأخذوا من الأموال ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى. فإذا كان على بن أبي طالب قد أباح لعسكره أن ينهبوا ما في عسكر الخوارج، مع أنه قتلهم جميعهم، كان هؤلاء أحق بأخذ أموالهم. وليس هؤلاء / بمنزلة المتأولين الذين نادي فيهم على بن أبي طالب يوم الجمل: أنه لا يقتل مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يغنم لهم مالا ولا يسبي لهم ذرية؛ لأن مثل أولئك لهم تأويل سائغ، وهؤلاء ليس لهم تأويل سائغ. ومثل أولئك إنما يكونون خارجين عن طاعة الإمام. وهؤلاء خرجوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته. وهم شر من التتار من وجوه متعددة، لكن التتر أكثر وأقوي؛ فلذلك يظهر كثرة شرهم. وكثير من فساد التتر هو لمخالطة هؤلاء لهم، كما كان في زمن قازان، وهولاكو وغيرهما؛ فإنهم أخذوا من أموال المسلمين أضعاف ما أخذوا من أموالهم. وأرضهم فيء لبيت المال. وقد قال كثير من السلف: إن الرافضة لا حق لهم من الفيء؛ لأن الله إنما جعل الفيء للمهاجرين والأنصار، وقطعت أشجارهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني النضير قطع أصحابه نخلهم وحرقوه. فقال اليهود: هذا فساد. وأنت / يا محمد تنهى عن الفساد. فأنزل الله: وقد اتفق العلماء على جواز قطع الشجر، وتخريب العامر عند الحاجة إليه. فليس ذلك بأولي من قتل النفوس وما أمكن غير ذلك. فإن القوم لم يحضروا كلهم من الأماكن التي اختفوا فيها، وأيسوا من المقام في الجبل إلا حين قطعت الأشجار. وإلا كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم. وما أمكن أن يسكن الجبل غيرهم؛ لأن التركمان إنما قصدهم الرعي، وقد صار لهم مرعي، وسائر الفلاحين لا يتركون عمارة أرضهم ويجيؤون إليه. فالحمد لله الذي يسر هذا الفتح في دولة السلطان بهمته وعزمه وأمره، وإخلاء الجبل منهم وإخراجهم من ديارهم. وأيضا، فإنه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز، واليمن، والعراق ما يرفع الله به درجات السلطان، ويعز به أهل الإيمان.
تمام هذا الفتح وبركته تقدم مراسم السلطان بحسم مادة أهل الفساد، وإقامة الشريعة في البلاد؛ فإن هؤلاء القوم لهم من المشايخ والإخوان في قري كثيرة من يقتدون بهم، وينتصرون لهم، وفي قلوبهم غل عظيم، وإبطان معاداة شديدة، لا يؤمنون معها على ما يمكنهم. ولو أنه مباطنة العدو. فإذا أمسك رؤوسهم الذين يضلونهم ـ مثل بني العود ـ زال بذلك من الشر ما لا يعلمه إلا الله. ويتقدم إلى قراهم، وهي قري متعددة بأعمال دمشق، وصفد، وطرابلس، وحماة، وحمص، وحلب، بأن يقام فيهم شرائع الإسلام، والجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، ويكون لهم خطباء ومؤذنون،/ كسائر قري المسلمين، وتقرأ فيهم الأحاديث النبوية، وتنشر فيهم المعالم الإسلامية، ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام. فإن هؤلاء المحاربين وأمثالهم قالوا: نحن قوم جهال. وهؤلاء كانوا يعلموننا، ويقولون لنا: أنتم إذا قاتلتم هؤلاء تكونون مجاهدين، ومن قتل منكم فهو شهيد. وفي هؤلاء خلق كثير لا يقرون بصلاة، ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا يحرمون الميتة، والدم، ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنة والنار، من جنس الإسماعيلية، والنصيرية، والحاكمية، والباطنية، وهم كفار أكفر من اليهود والنصاري بإجماع المسلمين. فتقدم المراسيم السلطانية بإقامة شعائر الإسلام: من الجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، وتبليغ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في قري هؤلاء من أعظم المصالح الإسلامية. وأبلغ الجهاد في سبيل الله. وذلك سبب لانقماع من يباطن العدو من هؤلاء، ودخولهم في طاعة الله ورسوله، وطاعة أولي الأمر من المسلمين وهو من الأسباب التي يعين الله بها على قمع الأعداء. فإن ما فعلوه بالمسلمين في أرض [سيس] نوع من غدرهم الذي به ينصر الله المسلمين عليهم. وفي ذلك لله حكمة /عظيمة، ونصرة للإسلام جسيمة. قال ابن عباس: ما نقض قوم العهد إلا أديل عليهم العدو. ولولا هذا وأمثاله ما حصل للمسلمين من العزم بقـوة الإيمـان، وللعـدو من الخـذلان، ما ينصر الله به المؤمنين، ويذل به الكفار والمنافقين. والله هو المسؤول أن يتم نعمته على سلطان الإسلام خاصة، وعلى عباده المؤمنين عامة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والحمد لله وحده. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
/ بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين ـ أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة، وأسبغ عليهم نعمه باطنة وظاهرة، ونصرهم نصرا عزيزا، وفتح عليهم فتحًا كبيرًا، وجعل لهم من لدنه سلطانًا نصيراً، وجعلهم معتصمين بحبله المتين، مهتدين إلى صراطه المستقيم ـ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلى على صفوته من خليقته، وخيرته من بريته، محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. أما بعد: فإن الله ـ عز وجل ـ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفي بالله شهيدا، وجعله خاتم النبيين، وسيد ولد آدم من الناس أجمعين، وجعل كتابه الذي أنزله /عليه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب ومصدقا لها، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ فهم يوفون سبعين فرقة، هم خيرها وأكرمها على الله، وقد أكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينًا. فليس دين أفضل من دينهم الذي جاء به رسولهم، ولا كتاب أفضل من كتابهم، ولا أمة خيرًا من أمتهم، بل كتابنا ونبينا وديننا وأمتنا أفضل من كل كتاب ودين ونبي وأمة. فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم، فقد سمعتم ما نعت الله به الشاكرين والمنقلبين حيث يقول: وكذلك لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فتزلزلت القلوب، واضطرب حبل الدين، وغشيت الذلة من شاء الله من الناس، حتى خرج عليهم الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وقرأ قوله: وارتد بسبب موت الرسول صلى الله عليه وسلم ولما حصل لهم من الضعف جماعات من الناس، قوم ارتدوا عن الدين بالكلية، وقوم ارتدوا عن بعضه، فقالوا: نصلى، ولا نزكي. وقوم ارتدوا عن إخلاص الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. فآمنوا مع محمد /بقوم من النبيين الكذابين، كمسيلمة الكذاب، وطليحة الأسدي، وغيرهما، فقام إلى جهادهم الشاكرون، الذين ثبتوا على الدين، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار، والطلقاء، والأعراب، ومن اتبعهم بإحسان، الذين قال الله ـ عز وجل ـ فيهم: وما أنزل الله في القرآن من آية إلا وقد عمل بها قوم، وسيعمل بها آخرون. فمن كان من الشاكرين الثابتين على الدين، الذين يحبهم الله ـ عز وجل ـ ورسوله، فإنه يجاهد المنقلبين على أعقابهم، الذين يخرجون عن الدين، ويأخذون بعضه ويدعون بعضه، كحال هؤلاء القوم المجرمين المفسدين، الذين خرجوا على أهل الإسلام، وتكلم بعضهم بالشهادتين، وتسمي بالإسلام من غير التزام شريعته، فإن عسكرهم مشتمل على أربع طوائف: كافرة باقية على كفرها: من الكرج، والأرمن، والمغل. وطائفة كانت مسلمة فارتدت عن الإسلام، وانقلبت على عقبيها: مـن العرب، والفرس، والروم، وغيرهم. وهؤلاء أعظم جرمًا عند الله / وعند رسوله والمؤمنين من الكافر الأصلى من وجوه كثيرة. فإن هؤلاء يجب قتلهم حتمًا ما لم يرجعوا إلى ما خرجوا عنه، لا يجوز أن يعقد لهم ذمة، ولا هدنة، ولا أمان، ولا يطلق أسيرهم، ولا يفادي بمال ولا رجال، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، ولا يسترقون، مع بقائهم على الردة بالاتفاق. ويقتل من قاتل منهم، ومن لم يقاتل؛ كالشيخ الهرم، والأعمي، والزمن، باتفاق العلماء. وكذا نساؤهم عند الجمهور. والكافر الأصلى يجوز أن يعقد له أمان وهدنة، ويجوز المن عليه والمفاداة به إذا كان أسيرًا عند الجمهور، ويجوز إذا كان كتابياً أن يعقد له ذمة، ويؤكل طعامهم، وتنكح نساؤهم، ولا تقتل نساؤهم إلا أن يقاتلن بقول أو عمل، باتفاق العلماء. وكذلك لا يقتل منهم إلا من كان من أهل القتال عند جمهور العلماء، كما دلت عليه السنة. فالكافر المرتد أسوأ حالاً في الدين والدنيا من الكافر المستمر على كفره. وهؤلاء القوم فيهم من المرتدة ما لا يحصي عددهم إلا الله. فهذان صنفان. وفيهم ـ أيضًا ـ من كان كافرًا فانتسب إلى الإسلام ولم يلتزم شرائعه: من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، والكف عن دماء / المسلمين وأموالهم، والتزام الجهاد في سبيل الله، وضرب الجزية على اليهود والنصاري، وغير ذلك. وهؤلاء يجب قتالهم بإجماع المسلمين، كما قاتل الصديق مانعي الزكاة، بل هؤلاء شر منهم من وجوه، وكما قاتل الصحابة ـ أيضًا ـ مع أمير المؤمنين ـ على رضي الله عنه ـ الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم في وصفهم: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة)، وقال: (لو يعلم الذين يقاتلون ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل)، وقال: (هم شر الخلق والخليقة، شر قتلي تحت أديم السماء، خير قتلي من قتلوه). فهؤلاء مع كثرة صيامهم وصلاتهم وقراءتهم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، وقاتلهم أمير المؤمنين على، وسائر الصحابة الذين معه، ولم يختلف أحد في قتالهم، كما اختلفوا في قتال أهل البصرة والشام؛ لأنهم كانوا يقاتلون المسلمين. فإن هؤلاء شر من أولئك من غير وجه، وإن لم يكونوا مثلهم في الاعتقاد؛ فإن معهم من يوافق رأيه في المسلمين رأي الخوارج. فهذه ثلاثة أصناف. وفيهم صنف رابع شر من هؤلاء.وهم قوم ارتدوا عن شرائع/الإسلام وبقوا مستمسكين بالانتساب إليه. فهؤلاء الكفار المرتدون، والداخلون فيه من غير التزام لشرائعه، والمرتدون عن شرائعه لا عن سمته، كلهم يجب قتالهم بإجماع المسلمين، حتى يلتزموا شرائع الإسلام،وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله،وحتى تكون كلمة الله ـ التي هي كتابه وما فيه من أمره ونهيه وخبره ـ هي العليا. هذا إذا كانوا قاطنين في أرضهم، فكيف إذا استولوا على أراضي الإسلام: من العراق، وخراسان، والجزيرة، والروم، فكيف إذا قصدوكم وصالوا عليكم بغيا وعدوانًا؟! واعلموا ـ أصلحكم الله ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه من وجوه كثيرة أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة)، وثبت أنهم بالشام. فهذه الفتنة قد تفرق الناس فيها ثلاث فرق: الطائفة المنصورة، وهم المجاهدون لهؤلاء القوم المفسدين. والطائفة المخالفة،وهم هؤلاء / القوم، ومن تحيز إليهم من خبالة المنتسبين إلى الإسلام. والطائفة المخذلة، وهم القاعدون عن جهادهم؛ وإن كانوا صحيحي الإسلام. فلينظر الرجل أيكون من الطائفة المنصورة أم من الخاذلة أم من المخالفة؟فما بقي قسم رابع. واعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، قال الله ـ تعالى ـ في كتابه: وكذلك اتفق العلماء ـ فيما أعلم ـ على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد. فهو أفضل من الحج، وأفضل من الصوم التطوع، وأفضل من الصلاة التطوع. والمرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة وبيت المقدس، حتى قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود. فقد اختار الرباط ليلة على العبادة في أفضل الليالى عند أفضل البقاع؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقيمون بالمدينة دون مكة؛ لمعان منها: أنهم كانوا مرابطين بالمدينة. فإن الرباط هو المقام بمكان يخيفه العدو ويخيف العدو، فمن أقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط، والأعمال بالنيات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل). رواه أهل السنن وصححوه. وفي صحيح مسلم عن سلمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا أجري عليه عمله، وأجري عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان)، يعني: منكر ونكير. فهذا في الرباط فكيف الجهاد؟! /وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد أبدًا)، وقال: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار)، فهذا في الغبار الذي يصيب الوجه والرجل، فكيف بما هو أشق منه، كالثلج، والبرد، والوحل؟! ولهذا عاب الله ـ عز وجل ـ المنافقين الذين يتعللون بالعوائق، كالحر والبرد، فقال ـ سبحانه وتعالى: واعلموا ـ أصلحكم الله ـ أن النصرة للمؤمنين والعاقبة للمتقين، وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وهؤلاء القوم مقهورون مقموعون. والله ـ سبحانه وتعالى ـ ناصرنا عليهم، ومنتقم لنا منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. فأبشروا بنصر الله ـ تعالى ـ وبحسن /عاقبته واعلموا ـ أصلحكم الله ـ أن من أعظم النعم على من أراد الله به خيرًا أن أحياه إلى هذا الوقت الذى يجدد الله فيه الدين، ويحيى فيه شعار المسلمين، وأحوال المؤمنين والمجاهدين، حتى يكون شبيهاً بالسابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار. فمن قام فى هذا الوقت بذلك، كان من التابعين لهم بإحسان، الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم. فينبغى للمؤمنين أن يشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه المحنة التى/ حقيقتها منحة كريمة من الله، وهذه الفتنة التى باطنها نعمة جسيمة، حتى والله لو كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ـ كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وغيرهم ـ حاضرين فى هذا الزمان، لكان من أفضل أعمالهم جهاد هؤلاء القوم المجرمين. ولا يفوت مثل هذه الغزاة إلا من خسرت تجارته، وسفه نفسه، وحرم حظًا عظيمًا من الدنيا والآخرة، إلا أن يكون ممن عذر الله ـ تعالى ـ كالمريض، والفقير، والأعمى وغيرهم، وإلا فمن كان له مال وهو عاجز ببدنه فليغز بماله. ففى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه فى أهله بخير فقد غزا)، ومن كان قادرًا ببدنه وهو فقير، فليأخذ من أموال المسلمين ما يتجهز به سواء كان المأخوذ زكاة، أو صلة، أو من بيت المال، أو غير ذلك، حتى لو كان الرجل قد حصل بيده مال حرام وقد تعذر رده إلى أصحابه لجهلـه بهـم ونحـو ذلك، أو كـان بيده ودائـع أو رهون أو عـوار قـد تعذر معرفة أصحابها فلينفقها فى سبيل الله، فإن ذلك مصرفها. ومن كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد؛ فإن الله ـ عز وجل ـ يغفر ذنوبه، كما أخبر الله فى كتابه بقوله ـ سبحانه وتعالى: وكذلك من أراد أن يُكَفِّر الله عنه سيئاته فى دعوى الجاهلية وحميتها فعليه بالجهاد؛ فإن الذين يتعصبون للقبائل وغير القبائل ـ مثل قيس ويمن، وهلال وأسد ونحو ذلك ـ كل هؤلاء إذا قتلوا، فإن القاتل والمقتول فى النار، كذلك صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار). قيل:يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصًا على قتل أخيه). أخرجاه فى الصحيحين.وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عَمِيَّة: يغضب لعَصَبِيَّة، ويدعو لعصبية فهو فى النار). رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (من تَعَزَّى بعزاء أهل الجاهلية فأعِضُّوه بهن أبيه ولا تَكْنُوا) فسمع أبى بن كعب رجلاً يقول: يا لفلان، فقال: اعضض أيْرَ أبيك، فقال: يا أبا المنذر، ما كنت فاحشاً. فقال: بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد فى مسنده. ومعنى قوله: (من تعزى بعزاء الجاهلية) يعنى: يتعزى بعزواتهم، وهى الانتساب إليهم فى الدعوة، مثل قوله: يا لقيس! يا ليمن! ويا لهلال! ويا لأسد، فمن تعصب لأهل بلدته، أو مذهبه، أو طريقته، أو قرابته، أو لأصدقائه دون غيرهم، كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله ـ تعالى ـ معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله. فإن /كتابهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وربهم إله واحد، لا إله إلا هو، له الحمد فى الأولى والآخرة، وله الحكم، وإليه ترجعون. قال الله تعالى: فالله، الله، عليكم بالجماعة والائتلاف على طاعة الله ورسوله، والجهاد فى سبيله؛ يجمع الله قلوبكم، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويحصل لكم خير الدنيا والآخرة. أعاننا الله وإياكم على طاعته وعبادته، وصرف عنا وعنكم سبيل معصيته، وأتانا وإياكم فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة، ووقانا عذاب النار، وجعلنا وإياكم ممن رضى الله عنه وأعد له جنات النعيم، إنه على كل شىء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
|